كيف أترجم؟ سؤال قد يبدو للوهلة الأولى أن المبتدئ في الترجمة هو من يطرحه فقط. ولكنه سؤال قد يُطرح على المترجم بمجرد ورود مشكلة في الترجمة مثل عدم استعمال المصطلح المناسب، أو عدم نقل المعنى المقصود في النص الأصلي، أو عدم سلاسة الترجمة. وهنا يأتي الحديث عن منهجية الترجمة وأهميتها في تفادي الوقوع في عدد من الأخطاء المحتملة خلال عملية الترجمة.
فعندما يُسأل المترجم مثلا عن سبب اختياره مصطلحا بعينه أو صياغته جملة على نحو معين بالقول: “كيف ترجمتَ هذا المصطلح؟” أو “كيف ترجمت هذه الجملة؟”، فإن المترجم يستحضر إحدى المراحل ويتوقف عندها لتبرير اختياره. وتظهر حينها منهجية الترجمة التي قد يكون اعتمدها عن غير وعي منه أحيانًا.
أولا- تعريف منهجية الترجمة
أورد أحمد جوهري تعريف منهجية الترجمة في كتابه “منهجية الترجمة: المقارنة والتأويل” بأنها مجموع الخطوات المتسلسلة التي يسلكها متعلم الترجمة بغية إتقان ترجمة النص. ويتجلى تسلسل خطوات هذه المنهجية في تدرجها من المقارنة في مستوى الكلمة المفردة والمصطلح، إلى التعمق في مستوى اللفظ بالتركيز على سبع تقنيات، وصولا إلى التأويل والمعاني المعرفية والأسلوب.
ويسعى عددٌ من الدراسات النظرية إلى وضع منهجية الترجمة لتنظيم عملية التعلم والرقي بممارسة الترجمة. ويساعد تطبيق منهجية الترجمة على فهم المشكلات والصعوبات المطروحة وتجاوزها خلال عملية الترجمة وتحسين جودة العمل. وتعتمدها المعاهد والجامعات في تدريس الترجمة حيث تتدرج من البسيط إلى المركب ومن السهل إلى المعقد من خلال التمارين التطبيقية.
-
ما الفرق بين المنهجية والطرق والتقنيات؟
المنهجية هي التحليلُ النظري للطرق المتبعة في مجال دراسي معين. وهي أيضا الدراسةُ المنهجية للطرق المطبقة أو التي يمكن تطبيقها في تخصص ما. وتضم عادة مفاهيم مثل النموذج والمراحل والتقنيات. ولا يُفترض أن تقدم المنهجية الحلول، وإنما تعرض الأسس النظرية لفهم الطريقة أو الطرق أو الممارسات الفضلى التي يمكن تطبيقها في حالة معينة للحصول على نتيجة ما. وأما الطرق التي تذكرها المنهجية، فهي تحدد الوسائل المساعدة على الوصول إلى نتيجة معينة1. وبينما ترتبط طرق الترجمة بالنص بأكمله، فإن تقنيات الترجمة تُستخدم على مستوى الجمل والوحدات اللغوية الأصغر2.
ثانيا- مراحل تدريس منهجية الترجمة
تتمثل المرحلة الأولى في تمييز المتعلّم بين اختلاف المصطلحات الأجنبية عن نظيرتها العربية. ويشمل هذا التمييز التعرّف على الجذر ودلالات ما يلحقه من سوابق ولواحق ودلالات الأوزان العربية وما يناسب منها تلك السوابق واللواحق. فعلى سبيل المثال، يجري تطويع المصطلحات الأجنبية للتعبير عن مفاهيم جديدة بإضافة السوابق واللواحق مثل لفظ Pasteur (الدال على عالِم الجراثيم الفرنسي) الذي يصبح pasteurisation (إضافة اللاحق) للدلالة على فعل تدمير النبتات الممرضة. وأما المقابل العربي فيطوع بالتغير الداخلي لشكل جذره ليتغير من “بستور” إلى بسترة (فعللة). وعندما تدل اللاحقة (ism/isme) على مذهب معين، تناسبها الياء المصدرية مثل (الاشتراكية).
وتشمل هذه المرحلة أيضا التدرب على المبادئ الأولية لترجمة المصطلح الأجنبي. وتستمد من توصيات مجامع اللغة العربية مثل تفضيل اللفظ العربي على المعرب والشائع على النادر. ويحتاج المترجم أيضا إلى الوعي بمنهجية اختيار المقابل العربي مثل استقراء التراث العربي وتوليد المصطلحات والتعريب والنحت.
ويتطرق متعلّم الترجمة في المرحلة الثانية إلى مستوى اللفظ من خلال التعمق في تقنيات الترجمة السبع التي سيأتي ذكرها لاحقا بالتفصيل. وتستدعي وعيا بخصائص اللغتين. وأما المرحلة الثالثة، فينبغي أن يستوعب المترجم فيها أن القاموس لا يكفي وحدة للبلوغ إلى المعنى المقصود في النص الأصلي. وينبغي أن يفهم ضرورة ربطه بسياقه داخل النص لفهم معناه الحقيقي. ولا يكفي أحيانا السياق، بل يحتاج المترجم إلى إنجاز بحث معرفي قبل بدء الترجمة. ويساعده هذا البحث على الإحاطة بمجموعة من المعلومات التي توضح المعنى بصورة جيدة. وسعيا لإضفاء مقومات جمالية على النص، لا بد من تعويض الأساليب التي تهدف إلى التأثير في المتلقي بأساليب مقابلة مناسبة في اللغة العربية تضفي جمالية على النص. وتأتي هنا أهمية كثرة القراءة وفوائدها ولاسيما الروائع الأدبية التي تؤدي إلى تحسين الذائقة اللغوية والأسلوب.
ثالثا- منهجية الترجمة: 8 خطوات لترجمة النص
شاركتُ قبل بضع سنوات في ورشة تدريبية للمترجمين ألقى محاضراتها أساتذة جامعيون. واختلفت منهجية الترجمة التي طرحها هؤلاء الأساتذة في بعض تفاصيلها باختلاف طبيعة النص (عام أو متخصص) ومجاله (قانوني، اقتصادي، طبي…). وتشترك منهجياتهم في بعض المراحل الضرورية لترجمة أي نص كقراءة هذا الأخير وتحديد المصطلحات التي تحتاج إلى بحث. وفيما يلي خلاصة للمراحل التي عُرضت في تلك الورشة:
1- قراءة النص قراءةً أوليةً أولُ خطوةٍ في منهجية الترجمة
قبل بدء الترجمة، ينبغي قراءة النص كاملا قراءة سريعة من أجل تحديد مجال النص وموضوعه بشكل عام والجمهور المستهدف. وتساعد هذه القراءة على اختيار المصطلحات المرتبطة بمجال النص منذ البداية. وأما إذا بدأ المترجم مباشرة في الترجمة، فقد يفهم موضوع النص فهما خاطئا. وبالتالي، سيختار المقابلات الخاطئة وقد ينتهي به الأمر إلى الخروج عن موضوع النص.
فعلى سبيل المثال، إذا عُرض عليك نصٌّ كلمته المفتاحية هي “Plant”، يُحتمل أن تحيل الكلمة على “مصنع” أو “نبتة”. وإذا شرعت مباشرة في الترجمة على أساس أن النص يتحدث عن النباتات، قد تبتعد عن الموضوع تماما وتضيع الكثير من الوقت في الترجمة إلى أن تكتشف في موضعٍ ما من النص أن الكاتب يتحدث عن المصنع. وهنا تظهر أهمية اتباع منهجية الترجمة التي تبدأ بالقراءة الأولية للنص.
2- المطالعة الجانبية إجراءٌ مهمٌّ في منهجية الترجمة
تكون هذه المرحلة ضرورية إذا لم يكن المترجم على اطلاعٍ بموضوع النص. وفي هذه الحالة، يضع المترجم النص الأصلي الذي ينبغي ترجمته جانبا، ويتصفح مقالات ومراجع خارجية عن نفس الموضوع في اللغة المترجَم إليها (اللغة الهدف) للإحاطة بالموضوع والمصطلحات المستعملة في ذلك النوع من النصوص.
ولهذا السبب، يُنصح المترجمون عموما بتطوير مهارة القراءة السريعة ضمن ممارسات أخرى لتساعده في هذه المرحلة على الاطلاع على المراجع ذات الصلة في وقت وجيز. كما يُنصحون بالمطالعة في مجالات مختلفة لمساعدتهم على أخذ فكرة عن مواضيع مختلفة قد تعفيهم من المطالعة الجانبية وربح الوقت.
3- تحديد المصطلحات أو الكلمات المبهمة
يعود المترجم هنا إلى النص الأصلي ويحدد الكلمات المفتاحية والتعابير البلاغية والتعابير الاصطلاحية غير المفهومة ويبحث عن معناها في لغة النص الأصلي لفهمها واستيعابها جيدا حسب سياقها في النص. وهنا أيضا ينظر المترجم في الحمولة الثقافية الممكنة لبعض الكلمات والتعابير التي يرتبط فهمها بفهم ثقافة اللغة المنقول منها. وتُستخدم لهذا الغرض معاجم أحادية اللغة. ويسمح هذا البحث للمترجم فيما بعد باختيار المقابل الأنسب في اللغة المترجَم إليها حسب سياق النص.
4- البحث عن مقابلات المصطلحات في اللغة المنقول إليها
يستخدم المترجم هنا معجما ثنائي اللغة لاختيار المقابل الأنسب حسب الفهم المبني على سياق النص. وتجدر الإشارة إلى مسألة مهمة جدا هي أن المقابلات أو ترجمات المصطلحات في المعاجم ليست دائما الأنسب. وفي هذه الحالة، يعتمد المترجم على سياق الجملة لاقتراح المقابل الأنسب. فالمترجم هو الذي يقرر المقابل الأنسب وليس المعجم. وفي هذه المرحلة أيضا يبحث المترجم عما يقابل التعابير الاصطلاحية في اللغة الهدف. ويكون هذا البحث إما في المخزون المعرفي للمترجم الذي راكمه من مطالعاته أو أعماله السابقة، أو في مراجع خارجية.
وفي بعض الأحيان، عندما لا يجد المترجم المقابل المناسب في كافة تلك المراجع، يمكنه طلب المساعدة من زملائه المترجمين في المنتديات الخاصة بالمترجمين مثل منتدى موقع بروز.
اقرأ أيضا: كيف أبحث عن ترجمة المصطلح؟
5- إعادة قراءة النص
بعد فهم المصطلحات والتعابير المستخدمة وتفكيك النص من كلمات إلى معاني، قد يحتاج المترجم إلى إعادة قراءة النص كوحدة كاملة لفهمه فهما جيدا يمكّنه من نقله إلى اللغة الهدف.
6- الترجمة
هي كتابة جديدة لأفكار النص الأصلي لا تنبعث منها رائحة الترجمة، وكأنها نص أصلي. ولذلك يُنصح المترجم أن يتدرب على فعل الكتابة باللغة الهدف. وتعكس الترجمة الجيدة معنى النص الأصلي بوضوحٍ، وتُصاغ على نحو سلس وكأنها كُتبت باللغة الهدف، وتحقق الأثر المنشود منها (الإقناع، إيصال معلومة…).
ولا توجد ترجمة واحدة ونموذجية للترجمة لأن الفكرة الواحدة يمكن التعبير عنها بطرق مختلفة. ولا توجد أيضا ما يمكن أن نسميه “الترجمة الصحيحة”، وإنما توجد محاولات مختلفة للترجمة قابلة للتطوير. وإذا تضمّن النص الأصلي كلمات أو عبارات داخل الرسوم البيانية أو الصور، ينبغي أيضا ترجمتها لأنها جزء من النص الأصلي.
ولا تحاول البحث عن ترجمة مثالية، بل ركّز على إنجاز ترجمة ذات جودة عالية. فسعيك إلى تقديم ترجمة مثالية سيؤخرك عن تسليم الترجمة في الوقت المحدد ويصعّب عليك مهمة الترجمة. ويكفي أن تقدّم ترجمة دقيقة وصحيحة المعنى وسليمة لغويا.
ولا يُنصح باستخدام الترجمة الآلية لترجمة النصوص كاملةً. فقد تساعدك في اقتراح مقابلات للكلمات ولكنها لا تصلح لتقديم ترجمات موثوقة. وبالتالي، فهي بمثابة معاجم آلية ثنائية اللغة. وتكون مفيدة أيضا في اقتراح كيفية ترجمة كلمة أو مصطلح في سياقه (الترجمة السياقية) من خلال عرض ترجمات سابقة لجهات خارجية مثل المنظمات.
7- المراجعة
تُعد هذه المرحلة ضرورية جدا بعد الانتهاء من الترجمة. ويُقارَن النص المُترجم بالنص الأصلي للتأكد من ترجمة جميع مقاطعه ومعانيه على نحو صحيح. وعند استخدام الأدوات المساعدة على الترجمة مثل ميموكيو، ينبغي مراجعة أيضا مدى احترام تنسيق النص الأصلي. فعلى سبيل المثال، إذا كانت في النص الأصلي روابط خارجية، ينبغي نقلها إلى النص المترجم.
وفي هذه المرحلة، تحتاج إلى عرض النص الأصلي والمترجَم أمامك لأن النص الأصلي ضروري لتحديد بعض أنواع الأخطاء في الترجمة. وتشمل المراجعة التأكد من نقل المعنى دون زيادة أو نقصان، واستعمال المقابلات الصحيحة، واتساق النص بتوحيد المصطلحات الواردة في النص، وترجمة الإحالات وإدراج المراجع.
اقرأ أيضا: كيف تترجم المصادر والمراجع؟
ولا تُعد المراجعةُ المرحلةَ النهائية، بل يليها التصحيح أو التدقيق اللغوي. فهناك فرق بين المراجعة والتدقيق اللغوي، وكلاهما مهمٌّ في عملية الترجمة.
8- التدقيق اللغوي
بعد مقارنة النص الأصلي بالمترجَم، تأتي مرحلة قراءة المنتج النهائي لعملية الترجمة. وتُقرأ الترجمة بشكل مستقل وبعيدا عن النص الأصلي للتأكد من سلاسة اللغة ووضوح المعنى. ويُحبذ أن تكون المراجعة بعد فترة زمنية من عملية الترجمة وألا تلي الترجمة مباشرة. ولكن ضيق الوقت والأجل القصير قد يؤثر سلبا على إعطاء هذه المرحلة حقها.
وفي هذه المرحلة، يتأكد المترجم من خلو النص من الأخطاء اللغوية والنحوية والإملائية وترجمة علامات الترقيم على النحو الصحيح. ويركز هنا على السلامة اللغوية.
كلمة أخيرة
وختاما، فإن وجود مشكلة في النص المُترجم يحيل على التقصير في إحدى المراحل المذكورة وخللٍ في منهجية الترجمة. فاستخدام مصطلح لا يتناسب مع سياق النص قد يعني عدم الاطلاع على نصوص مماثلة في مرحلة المطالعة الجانبية. ويمكن أن تحيل ترجمةُ تعبير اصطلاحي ما ترجمةً حرفية على عدم البحث عما يقابله ثقافيا في اللغة المنقول إليها.
المصادر:
جوهري، أحمد. (2003). منهجية الترجمة: المقارنة والتأويل. وجدة: مطبعة الجسور.
(1) Rani, V. Jai Vasumathi Valli. (N.D). Methodologies of Translation. IOSR Journal of Humanities and Social Sciences
(2)Alarabin, Mahmoud. (2019). Basics of Translation: A Textbook for Arab University Students. Newcastle upon Tyne: Cambridge Scholars Publishing