يتساءل الكثير من الناس حول أهمية دراسة الترجمة إذا كان بإمكانهم العمل في هذا المجال دون تلك الدراسة. والسؤال المطروح هو: لماذا يدرس الكثيرون الترجمة على الرغم من إمكانية عملهم في هذا المجال دون دراسة أكاديمية؟ والإجابة بسيطة: لأن دراسة الترجمة تمنح المتخصصين في هذا المجال مهارات ومعارف قد لا يحيط بها المتعلِّم غير المختصِّ.
سيشرح هذا المقال بشكل مفصَّل أهمية دراسة الترجمة والهدف منها ولمحة عن محتوى مقرراتها والفرق بين دراستها في المعاهد والكليات.
أولا- ما أهمية دراسة الترجمة؟
لا تقتصر اللغة على كونها وسيلة للتواصل، بل هي تعبيرٌ عن الثقافة والمجتمع والمعتقد. فعدم الإلمام بالثقافة المنقول إليها والاختلافات المجتمعية والعقائدية كفيلٌ بإضاعة خصائص تلك الثقافة والإرث الذي تنقله اللغة في طياتها. ومن ثم، فإن المترجم ينقل في عملية الترجمة الحمولة الثقافية للغة. وتوجد علاقة وطيدة بين حرفة الترجمة ودراستها، فكلما كان هناك طلبٌ على خدمة الترجمة في سوق العمل، زاد الطلب على دراسات الترجمة.
اقرأ أيضا: كلمات غير قابلة للترجمة من لغات العالم
1- الهدف من دراسة الترجمة
تعتبر دراسة الترجمة أحد المجالات الحيوية التي تساهم في تحسين مستوى التفاهم الثقافي بين الشعوب المختلفة، وتحقيق التبادل الثقافي والعلمي. ولذلك، يلجأ الطلاب إلى دراسة الترجمة للحصول على المهارات اللازمة في هذا المجال. وتساعد دراسة الترجمة أكاديميا على تعزيز الفهم والإدراك اللغوي وتعلم مبادئ الترجمة واستدراك الأخطاء بالنقد والتقويم والتعلم المستمر للغات. وقد يساعد التحصيل الأكاديمي أيضا في تحسين مستوى الخدمات المتعلقة بالترجمة. وبما أن الترجمة مهنة مهمة ومؤثرة على العديد من المجالات، فقد تزيد دراستها من فرص الحصول على عمل في القطاعات المتعلقة باللغات والترجمة مثل وكالات الأنباء العالمية والمنظمات الدولية ودور النشر.
وتساعد دراسات الترجمة أيضا الطالب على فهم عملية الترجمة وما يتخللها من تقنيات. فعندما يدركها، يكون على وعي بالمشكلات المطروحة وقادرا على تحديد حلول لها. فالترجمة ليست مجرد نقل نص من لغة إلى أخرى. وتُبرز الاختلافاتُ اللغوية والثقافية بين اللغات أهميةَ منهجية الترجمة ودراستها. ولا يقتصر دور المترجم على الترجمة، بل يضطلع أيضا بدور إبداعي عند بحثه عن حل في حال وجود فجوة مصطلحية بحيث يتحمل مسؤولية نقل الرسالة بدقة من لغة إلى أخرى1.
2- ماذا يدرس الطالب في “دراسات الترجمة”؟ وماذا يستفيد منها؟
دراسات الترجمة هي مجال دراسي وتخصص أكاديمي يتطرق إلى نظريات الترجمة وتطبيقاتها. وتُدرس الترجمة باعتبارها نقلا لغويا وتواصلا ثقافيا على السواء. وتتداخل فيها تخصصات أخرى على غرار الدراسات الثقافية والأدب المقارن والتكنولوجيا والتاريخ واللسانيات. وتتطرق إلى ممارسة الترجمة من لغة إلى أخرى والترجمة كوسيلة لفهم الانتقال بين لغات وثقافات مختلفة. وتدرس تاريخ الترجمة وفلسفتها من الجانب النظري والمنهجي. وتدرس أيضا ممارسات الترجمة المتخصصة مثل الترجمة القانونية والطبية وغيرهما. وبما أن المترجم قد ينخرط في المجال الأدبي من خلال الترجمات الأدبية والتسويقية، فإن دراسات الترجمة تتطرق أيضا لفن الترجمة.
ويدرس الطالب كيف تتأثر الترجمة بالمسائل الثقافية والأخلاقية بهدف تمكنه من تطبيق الفهم النظري لذلك كله في اختياراته والتقنيات التي يعتمدها في عملية الترجمة. ولهذا نجد الأستاذ يعتمد على تحليل النصوص لتمكين الطالب من تطوير وعيه بمشكلات الفهم والتأويل. ويهدف أيضا إلى تطوير مهاراته في التحليل والتقييم والتفسير للتعامل مع مشكلات الترجمة. وإضافة إلى ذلك، فإن دراسة الترجمة تساعده على تطوير مهارات البحث والقدرة على تطوير استراتيجيات للانتقال لغويا وثقافيا من نص لآخر.
ويدرس الطالب عددا من المقاربات النظرية في دراسات الترجمة مثل التكافؤ ودراسات الترجمة الوصفية (الفقرة التالية) والنظرية الغائية أو نظرية الهدف في الترجمة. وقد انبثقت عن دراسات الترجمة تخصصات أخرى منها دراسات الجندر أو النوع الاجتماعي ودراسات الترجمة السمعية البصرية والتوطين ودراسات الترجمة ما بعد الاستعمارية وتكنولوجيات الترجمة وغيرها2. ومن خلال هذه الجهود، يمكن للمترجم تحقيق ترجمة دقيقة، وبالتالي تعزيز الفهم الثقافي ونقل المعرفة بكفاءة.
أ) دراسات الترجمة الوصفية نموذجا
تشكل الدراسات الوصفية في الترجمة، على سبيل المثال، جزءًا هامًا من البحوث العلمية المتعلقة بمجال الترجمة. فهي تُخضع النصوص المترجمة لتحليل وصفي بهدف فهم العملية الترجمية وتطويرها. وتهدف هذه الدراسات إلى التعرف على الخصائص اللغوية والثقافية للنص الأصلي والنص المترجم، وتحديد الصعوبات التي يمكن مواجهتها في عملية الترجمة. ومن خلال تحليل هذه العوامل، يجري تطوير الطرق والأساليب التي يتبعها المترجمون لتحسين جودة النص المترجم وتلبية احتياجات القراء. وبالتالي، تسهم دراسات الترجمة الوصفية في تثقيف المترجمين وتدريبهم وتحسين كفاءاتهم. وتساعد في إيجاد حلول للمشكلات اللغوية والثقافية التي تواجه المترجمين في عملهم. وتتيح للمترجم الفهم الدقيق للنص الأصلي، مما يساعده على نقل المعنى بأسلوب صحيح ودقيق.
ثانيا- ما الفرق بين دراسة الترجمة في كليات الآداب ومعاهد الترجمة؟
وضّح جان دوليل، وهو محاضر ومؤلف كتب حول بيداغوجية الترجمة وتاريخها ومدير مدرسة الترجمة في أوتاوا، الفرق بين تدريس مادة الترجمة في قسم اللغات وفي مدارس أو معاهد الترجمة. فمدرسة الترجمة تعمل على نصوص براغماتية أي صحفية وتقنية وعلمية وغيرها بالتركيز على حاجات السوق لإعداد الطالب المتدرب لها. لذلك تشترط هذه المدارس معرفة اللغات جيدا كشرط أساسي للقبول فيها، ثم تُدرب على مهنة الترجمة. وأما مادة الترجمة في أقسام اللغات، فهي تعمل على نصوص أدبية ويتدرب الطالب على جمل ومقاطع منفردة وعلى نصوص يجهل أصحابها وجمهورها المستهدف لأن ذلك ليس مهما في سياق الهدف من ذلك، وهو الترجمة من أجل اللغة في حد ذاتها. وبالتالي، فهذه الترجمة البيداغوجية وسيلة لتعلم اللغة.
وانطلاقا من خبرة دوليل في تدريس الترجمة منذ عام 1974، أوضح طبيعة المواد التي تركز عليها معاهد الترجمة. فالمترجم يتعلم فيها كيفية التوثيق السريع في موضوعات مختلفة. ويتلقى دروسا في علم المصطلح بحيث يوجد منهج كامل وتقنية جاهزة للبحث في المصطلح والتحقق من دقته. ويحصل الطالب على دروس تدريبية في الترجمة في الحقول الواسعة الانتشار مثل الترجمة الاقتصادية والقانونية والطبية نظرا إلى استحالة تدريبه على سائر الحقول. ويتلقى أيضا دروسا نظرية في الترجمة والمعلوماتية مع تمتين معرفته اللغوية في السنة الأولى3. ولاحظت هانلوري لي يانكي، رئيسة مدرسة الترجمة التحريرية والفورية في جنيف، أن المؤلفات التي “تبني مناهجها على ربط النظرية بالممارسة هي التي تجد سبيلها إلى قاعات الدرس في المدارس العريقة للترجمة”4.
ثالثا- أهمية الثقافة والتعلم المستمر في الترجمة
تحتل الثقافة والتعليم أهمية كبيرة في مجال الترجمة. فالمترجم لا يمكنه الاكتفاء بمجرد ترجمة الكلمات، بل يحتاج إلى فهم عميق للثقافة في اللغتين المنقول منها وإليها. ويساعد ذلك في فهم العبارات والتعابير الشائعة والأساليب المعتمدة في التعبير والتفكير المختلفة من مجتمع لآخر. ويجب على المترجم التعلم باستمرار وإجراء بحث معمق حول مواضيع جديدة ومختلفة لتحسين قدراته في الترجمة. ويمكن لدراسته المستمرة والتثقيف في هذا المجال أن يعززا كفاءته ويساعداه في تقديم ترجمات دقيقة ومتميزة بحيث تساهم في نشر المعرفة والتفاهم الثقافي بين الشعوب.
رابعا- ما العلاقة بين كفاءة المترجم وتعلم الترجمة؟
يعتمد تحقيق الكفاءة العالية في الترجمة على تكوين شامل ومتخصص، وبناءِ قائمة من الخبرات والممارسات التي تثري وتطور قدرات المترجم. ولذلك فإن كفاءة المترجم عنصرٌ حاسمٌ في نجاح الترجمة. فما الذي يحدد كفاءة المترجم؟ إن تحقيق الكفاءة يستند إلى مجموعة من المهارات والمعارف التي يحتاجها المترجم المحترف. يجب أن يفهم المترجم النصوص التي يترجمها بصورة جيدة، وتكون لديه مهارات الترجمة والتحرير، ويمتلك معرفة لغوية وثقافية في اللغات المستخدَمة.
بالإضافة إلى ذلك، يحتاج المترجم المحترف إلى إعمال التفكير المنطقي والإبداعي والفني، والقدرة على التواصل الفعال والعمل المستمر على صقل وتحسين مهاراته. ويتطلب العمل في مجال الترجمة درجة عالية من الدقة والاهتمام بالتفاصيل، فأي خطأ صغير قد يؤدي إلى تغيير المغزى الأساسي للنص المترجم. وتتطلب الترجمة من المترجمين معرفة عالية بالمجال الذي يترجمون له، والتي ينبغي العمل على تطويرها وتحديثها باستمرار.
خامسا- فرص العمل في مجال الترجمة بعد التخرج
عندما يُتم الطالب دراسته الأكاديمية في مجال الترجمة ويتلقى فترة تدريب ويمتلك رصيدا من الممارسة العملية، يستطيع أن يجد فرصا وظيفية في سوق العمل. ويمكن للخريجين العمل في مختلف المجالات والمؤسسات الحكومية والخاصة والعالمية. ويوفر العمل في مجال الترجمة فرص عمل متعددة في الترجمة الفورية والتحريرية، إلى جانب فرص العمل في التعليم والإعلام والسياحة والبعثات الدبلوماسية وغيرها. ويسهم العمل في الترجمة في إتاحة فرصة العمل بشكل حر أو فتح شركة خاصة، مما يتيح إمكانية العمل عن بعد وتحديد الأجر وفقاً للخدمة المقُدَّمَة، وهي ميزات تجعل العمل في هذا المجال أكثر إثارة وجاذبية للخريجين في هذا التخصص.
خاتمة
ينبغي النظر إلى الترجمة باعتبارها إحدى المهن المهمة التي تُسهم في بناء الحضارة والتطور العلمي والثقافي في المجتمعات المختلفة. ومن هنا تنبع أهمية دراستها للحصول على المهارات اللازمة والوعي بعملية الترجمة وتقنياتها وفهم المشكلات المطروحة والقدرة على إيجاد حلول لها. وهذا كله يسهم في تحسين مستوى الخدمات المقدَّمة عند نقل المعلومات والأفكار من لغة إلى أخرى.