يرتكب الإنسان أخطاء في حياته المهنية وتكون دروسا له ليطور أداءه المهني. ولا شك أن الخطأ طبيعة بشرية وأن الإنسان يتعلم من أخطائه وأن الذي لا يخطئ لا يتعلم. وهذا الأمر ينطبق على جميع المجالات بما فيها الترجمة. ولكن ثمة أخطاء في الترجمة كلفت الإنسان حياته وحريته وثروته.
وهنا تظهر أهمية التجربة والممارسة في مجال الترجمة والتمكن من اللغتين والتخصص وفهم الثقافة المنقول منها وإليها. ويتبين بالملموس أن ترجمة الإنسان ضرورية في مقابل ترجمة الآلة، وأن الترجمة ليست مجرد نقل الكلمة من لغة إلى أخرى. وقد سجل التاريخ بعض أخطاء الترجمة التي أصبحت ذائعة الصيت نظرا للنتائج التي ترتبت عليها. وفيما يلي بعض هذه الأخطاء التي استقيتها من مراجع مختلفة:
1) إبادة شعب بسبب سوء اختيار المقابل المناسب:
أوردت العديد من المصادر أن مأساة هيروشيما كانت نتيجة خطأ في الترجمة من اليابانية إلى الإنجليزية. ففي يوليو 1945، قدمت دول التحالف بيانا شديد اللهجة يدعو إلى استسلام اليابان غير المشروط. وأورد البيان أيضا أن أي جواب سلبي من اليابان سيؤدي إلى دمار سريع وشامل. وبعد ترجمة شروط الاستسلام من الإنجليزية إلى اليابانية، انتظروا جوابا من سوزوكي، رئيس الوزراء الياباني حينذاك. وفي غياب قرار رسمي وأمام ضغط المراسلين الصحافيين ليقدم سوزوكي تصريحا بشأن قرار اليابان، قال إنه “يمتنع عن التعليق في الوقت الحالي”. وعبّر عن هذه الفكرة بالكلمة اليابانية Mokusotsu التي تعني التزام الصمت.
ولكن تلك الكلمة اليابانية تحتمل أكثر من تأويل. فقد تعني عدم التعليق أو التجاهل. وبدل ترجمة تلك الكلمة بمقابلها “لا تعليق” أو “أمتنع عن التعليق في الوقت الحالي”، تُرجمت بعبارة “فلنتجاهل الأمر”. ومن ثم نقلت وكالات الأنباء العالمية بأن البيان في نظر الحكومة اليابانية “لا يستحق التعليق”. واعتبر الأمريكيون أن هذا الجواب يغلق الباب أمام أي حل دبلوماسي للحرب واستاؤوا من نبرة الاستعلاء في ترجمة جواب رئيس الوزراء الياباني. وبعد عشرة أيام، أُلقيت القنبلة الذرية على هيروشيما. وهكذا يمكن القول إن عدم الدقة في ترجمة كلمة أدت إلى مقتل 70000 شخص على الفور ومئات الآلاف نتيجة الدمار والإشعاع (المصدر).
2) خسائر مالية بسبب سوء الترجمة:
استخدمت شركة هونغ كونغ وشنغهاي للخدمات المصرفية (HSBC) شعارا مثبطا للعزيمة في عام 2009 حينما تُرجم شعارها “Assume Nothing” في أسواقها العالمية بعبارة “لا تفعل شيئا” (Do Nothing)، وهو ما أثر سلبا على حملتها التسويقية. وبذلك حاد الشعار عن هدفه الرئيس من التحفيز لاستعمال خدمات الشركة إلى نهيهم عن القيام بأي شيء. وهو ما أدى إلى دفعها الملايين في حملة لتغيير الشعار في الأسواق المتضررة. وأصبح شعارها الحالي هو “مصرف العالم المحلي”. وهنا تظهر أهمية الترجمة التسويقية المُوفَّقة والسالمَة من أخطاء الترجمة بأنواعها في الترويج للمنتج وزيادة المبيعات. فالشعارات تكون في الغالب جملا قصيرة، لكن تأثيرها يكون فارقا في معاملات الشركات والمؤسسات المالية (المصدر).
3) شلل المريض بسبب ترجمة خاطئة لمصطلح طبي:
نُقل مريض فاقد الوعي إلى قسم المستعجلات في فلوريدا في عام 1980. وحاول أصدقاؤه الذين نقلوه إلى المستشفى شرح حالته للأطباء بكونه تعرض لتسمم غذائي. وبما أنهم كانوا يتحدثون باللغة الإسبانية، ترجم موظف كلمة “intoxicado” التي تعني مُسمم (poisoned) إلى الإنجليزية على نحو خاطئ بكونه تناول مخدرا (intoxicated). وعليه تعامل الأطباء مع حالته على أساس أنه أخذ جرعة زائدة من المخدر. وأدى التأخر في حصوله على العلاج الملائم إلى شلله وتحميل المشفى غرامة قدرها 71 مليون دولار في القضية التي رُفعت ضده. وهنا تظهر أهمية التخصص في الترجمة واستيعاب المفاهيم في المجال الطبي مثلا استيعابا كاملا. فالخطأ الترجمي في المجال الطبي كفيل بأن يتسبب في خطأ طبي قد يودي بحياة المرء (المصدر).
4) حكم قضائي ظالم بسبب تفريغ وترجمة خاطئين:
أُعيدت محاكمة متهم متحدث باللغة الإسبانية من واشنطن في عام 2011 بعد شكوك حول الترجمة الإنجليزية لتحقيق الشرطة معه. وقد حُكم عليه من قبلُ بستين (60) عاما سجنا نافذا بتهم منها الاغتصاب ومحاولة القتل. وسُجل التحقيق الذي أجري معه بالإسبانية، وقام موظفان بتفريغه وترجمته واعتمدت المحكمة إحدى الترجمات للنطق بالحكم. وكان أحد أجوبة المتهم المصيرية في التفريغين الصوتيين على طرفي نقيض، ومن ثم كانت الترجمة مختلفة وفاصلة في الحكم. فعندما سأل المحقق المتهم عما إذا حاول قتل الضحية، ورد في تفريغ أنه قال “Yo lo hice” (قمت بذلك)، وورد في تفريغ المترجم الثاني أنه قال: “No lo hice” (لم أقم بذلك).
وأورد أحد المصادر أن المحكمة اعتمدت على الترجمة الأولى لأن الموظف الذي أنجزها في نظر المحكمة مترجم مؤهل. ولا يقل التفريغ الصوتي أهمية عن الترجمة، نظرا إلى أن الخطأ في التفريغ يؤدي تلقائيا إلى الخطأ في الترجمة. وبما أن كل كلمة ينطق بها المتهم كفيلة بتبرئته أو إدانته، فإن خطأ بسيطا في تفريغ أقواله وترجمتها قد يضعه خلف القضبان ما تبقى من حياته (المصدر).
5) تصعيد أزمة سياسية بسبب خطأ في الترجمة:
في عام 1956، ألقى الزعيم السوفياتي نيكيتا خروتشوف خطابا انتقد فيه الرأسمالية وقال فيه إن الاتحاد السوفياتي سيُعمر أكثر من النظام الرأسمالي الأمريكي. واستخدم عبارة اصطلاحية في اللغة الروسية تعني “سنُعمّر أكثر منكم وسنعيش لنشهد على مراسيم جنازتكم”. ولكنها تُرجمت على أنه يقول: “سنقبرُكم”. فنقلت الترجمة معنى مغايرا لما قصده خروتشوف، وهو ما أجج التوتر القائم أصلا خلال الحرب الباردة بين روسيا وأمريكا التي اعتبرت تصريحه تهديدا لها (المصدر).
وختاما، ينبغي أخذ مهمة الترجمة على محمل الجد واستيعاب أن تقدير المترجم ماديا ومعنويا نابع من قيمة عمله وأهمية تأثيره على المتلقي في أي مجال سواء كان طبيا أو عسكريا أو قانونيا أو غيرها. فكما أن للترجمة الفضل في حوار الحضارات وتعارف الشعوب، فقد تكون أخطاء الترجمة سببا في حدوث أزمة دبلوماسية أو النطق بحكم ظالم.
اقرأ أيضا: أخطاء في الترجمة تداولتها وسائل الإعلام خلال جائحة كوفيد-19
أستاذة بشرى مقالاتك رائعة ومثرية لا يُمل منها, جزاك الله خيراً
شكرا على كلامك ومرورك الطيّبين 🙂